تزايدت الأعداد المسجلة لحالات الانتحار في العالم العربي حتى وصلت ذروتها في إحصائيات 2018 إلى 2000 حالة يوميا حسب تقارير محلية ودولية، وتشكلت حالة نشطة من التفاعل المجتمعي مع حوادث الانتحار التي تناولتها وسائل الإعلام المختلفة في العالم العربي في الفترة الأخيرة، وعلى رغم أن ما تناوله الإعلام هو الجزء الطافي من جبل الجليد، ولا يمثل إلا نسبة مئوية لا تذكر من الحالات الحقيقية، إلا أن تسليط الضوء عليها حرك مياه القضية الراكدة.
واختلفت إلى حد التناقض آراء المتابعين والمهتمين بالقضية، وللأسف الشديد ضاع الجوهر الحقيقي للقضية بين الآراء المتعارضة، واهتم الناس بالقشور، وانصرفوا عن جوهر الظاهرة، وجوهر الظاهرة لا يمثله فرع واحد من فروع العلم، دينيا كان، أو سياسيا، أو اجتماعيا، أو نفسيا، أو سلوكيا، أو تربويا، بل هي منظومة متكاملة من الأعراض والأسباب والمظاهر وطرق العلاج، يكمل بعضها بعضا، والحكمة فيها ضالة المؤمن أني وجدها فهم أحق بها.
وعلى الجادين في محاربة ومحاصرة هذه الظاهرة دراسة كافة الجوانب المتعلقة بها دراسة علمية صحيحة، والاستفادة من تجارب الأمم كافة في معالجة أسبابها ودوافعها، للوصول بها إلى الحد الأدنى الممكن، خاصة بالنسبة للمجتمعات الإسلامية، نظرا لأنها تتعارض مع مقصود كلي من مقاصد الشريعة الإسلامية وهو مقصود حفظ النفس البشرية، وأيضا مقصود حفظ النسل بحسب مفهوم بعض الفقهاء والدارسين لتفسير هذا المقصود الكلي من مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء.
ومما أريد أن ألفت النظر إليه وأوكده طبقا لتجربة شخصية - وقد أشارت كثير من الدراسات النفسية والاجتماعية إليه - أن شعور الرغبة في الانتحار يتسلل إلى النفس تسلل الغاز المميت، وهو شعور معد إلى أبعد مدى، فبمجرد العمل على هذا الملف لترتيب ومراجعة مواده، والاستماع إلى عشرات الأفكار والتجارب الذاتية، أصبحت فكرة الانتحار عندي مألوفة أكثر من ذي قبل، وما أن أدركت تسلل شعور الإلف هذا إلى نفسي لمجرد معايشة المشكلة لأيام، حتى تملكني هلع شديد على هؤلاء الذين يعانون في حياتهم معاناة عصية على الاحتمال، دون أن يكون بجوارهم من يدعمهم ولا من يستمع إليهم.
وإن أردنا أن نلخص علاج هذه الظاهرة المتفشية في جملة واحدة، فهي "الأمان المجتمعي" الذي يضم طاقات المجتمع الهائلة لتدعم هؤلاء الأفراد في لحظات الضعف والعجز وفقد النصير، لا أحسب أن شخصا قد يجنح إلى التخلص من حياته التي فطر على حبها والتمسك بها، وهو يشعر أن هناك مجتمعا أخويا يدعمه ويعينه.
وفي هذا الملف، يستعرض «بيان للناس» وجوها عدة لدراسة الظاهرة، ومحاولات تفسيرها، ملتمسا طرق العلاج، وبالله التوفيق وهو المستعان.