تتشوف قلوب الخلق كل عام في انتظار الموسم الكبير، وكلٌ له في رمضانَ حاجة يَبْتَغِيْهَا:
• فمِنْ عاص يريد أن يغتنم الموسم ليتعرض لرحمة الله.
• ومِنْ مستوحش يريد يأنس بروح المساجد وصحبة كل ساجد.
• ومِنْ مُسْتَحٍ من طول الهُجْران يريد أن يدس رأسه وسط الرؤوس علَّها تصيب رحمة عامة، فيخرج من الشهر وقد قيل له «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم».
• ومِنْ مستزيد يرى في الشهر موسم العطاء المستمد من خزائنَ لا تنفد ويد سحَّاءَ لا تغيض، فيغترف ويغترف حتى هلال الشهر الجديد.
• ومِنْ رجل لا يملك من المال ما يجود به كما يجود أهل الدثور، فيبذل من وقته وصحته، وبعضهم من علمه، وأكثرهم من نيته، يتاجر مع الله تجارة لا تبور، ويطرق أبواب الخير ويتعرض لفيض الرحمن.
• ومِنْ رجل آتاه الله صوتا حسنا، أو خُلُقا حسنا، أو علما حسنا، فهو يدل به عباد على الله، ويحبب إلى خلق الله البقاءَ في بيوت الله، تتنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله في الملأ الأعلى.
• ومِنْ رجل اعتاد أن يوسع على عباد الله من نفقات المحسنين الذين تجود نفوسهم بالخير في هذه الأيام المباركات، فيكون واسطة الخير بين المنفِق والمنفَق عليه، يأخذ مثل أجورهم دون أن يُنقِص من أجورهم شيئا.
متاهات الشيطان!
وهناك أيضا من تاهوا في دروب اخترعها لهم الشيطان اختراعا، فالشهر عندهم مُسَلْسِلَاتٍ لا يملكون منها فِكَاكَا، وسهرات حتى مطلع الفجر، ثم تضيع صلاة الفجر، وأكلاتٍ مُتْخِمَاتٍ، وشرب كشرب الهيم، ونوم طويل كنوم أهل القبور، وصوم عن الطعام والشراب ربما، ثم لا يصوم أحدهم عن قول الزور والعمل به، ومنهم من أفلتَ زمامَه فرمضان كغير رمضان، لا ينفتح عليه بابُ غي وضلال إلا ولج فيه.
لكن كورونا كما قلبت الموازين وغيرت مقاييس الاجتماع والسياسة والتحالفات والتجاذبات، يبدو أنها ستعطينا تجربة رمضانية جديدة هذا العام، فالخلوة والتباعد والحصار والحظر، هي مصطلحات تسير عكس اتجاه رمضان الذي عرفناه وألفناه على مدار السنين، وللأسف لم يكن معظمنا مستعدا لهذا النوع من الخلوة، فالعالم من حولنا كان يموج ونموج معه، دون أن يعطينا فرصة لالتقاط الأنفاس، ولا التفكر ساعة من زمان فيما نحن فيه، ولا ما نحن إليه صائرون، لكن يبدوا أنه لن يكون أمامنا خيار هذه المرة، فقد توقفت موجات الزمان على حين غرة، ووجدنا أنفسنا كالحيارى التائهين، مجبرين على خوض اختبار من نوع جديد، «رمضان في الخلوة الإجبارية» ونحن مع الوضع الجديد نحتاج إلى ترتيبات مختلفة عما قمنا به في السنوات الماضية، وإن كان ما قمنا به في الماضي، لم يكن أفضل ما نأمل، ولا خير ما نستطيع.
رمضان هذه المرة ... غير!
أولا: نحن تحت قصف هذا الكائن الذي لا ندري هل ننجو معه أو نهلك، وللمفارقة فقد خلط فيما خلط مفاهيم النجاة والهلكة، فقد يحسب بعضهم الهرب من الفيروس نجاة، ويحسبه بعضهم هلاكا، والعكس، حسب موقع كل منا من الصورة الكبيرة.
ثانيا: نحتاج أن نوطن أنفسنا، على أنه قد لا يكون هناك معين من الخلق على الطاعة، ولن يوجد الكثيرون الذين يأخذون بيدنا ليفصلونا عن عالم الفضاء الإلكتروني الذي استوعب كل حواسنا، وعزلنا منذ أمد بعيد في عزلة اختيارية عما حولنا.
ثالثا: نحن مسئولون مسئولية مضاعفة الآن عمن نعول، فقد نفذت من أيدينا كافة المبررات والأعذار التي كنا نتعلل بها، وأصبحنا أمام مسئولياتنا كأوضح ما كان قط، فلا عمل يشغلنا، ولا ضيق وقت نتعلل به.
والحق أن رمضان على مر السنين فقد الروح الأصيل والمعني الفاضل الذي أُنزلت به الآيات، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183] إلا قليلا، فالدراسات أصبحت تبحث للناس عن: كيف يصوم بلا جوع ولا عطش؟!، والناس أيضا من تلقاء أنفسهم يجتهدون، فمنهم من يتعامل مع المعدة على أنها بطارية هاتف، يحرص على ألا تفرغ أبدا من الشحن!
والليل عند المقتصدين بعضه في اللهو المباح، وبعضه في النوم، ولم يبق للصلاة والذكر والقرآن إلا قليلا، وفي مقتبل الشهر كل عام تثور عند معظمنا ثائرة التغيير الشامل، فيضع الجداول التي يبغي بها أن يرفع سرعة إيمانه وتقواه من الصفر أو قريبا من الصفر إلى الغاية القصوى، يحسب أن ذلك ممكنا، لكن ما إن يمر من الشهر يوم أو يومان حتى يعود لسابق عهده أو قريبا منه.
كلنا يردد أن صحابة النبي كانوا يعيشون على ذكر رمضان عاما كاملا، وكثيرون منا لا يدخلون نسق الشهر الكريم إلا وقد مرت منه أيام معدودات، ثم لا يلبثون أن ينقضوا عهد رمضان قبل صلاة العيد، وكل ذلك وقد كان لنا على الطاعات أعوانا، وللخيرات صحبة ومعينا، وكانت كثير من الشياطين مصفدة، ثم يأتينا رمضان هذا العام وقد صُفِّدَ أهل الخير والتقوى، وأطلقت شياطين الإنس تفسد على الناس حياتها، ليس فحسب صيامها.
لكن المولى الرحيم الذي أرشدنا بقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 115] قد فتح أمامنا باب العمل واسعا، فمن حيل بينه وبين الجماعة، فعليه أن يحتال لهذا قدر الاستطاعة، ويجعل من نفسه وأهل بيته جماعة، فإن منعتم الخروج من بيوتكم فـ ﴿اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 87] ومن خلصت نيته، رزقه الله الحيل.
شهر القرآن
شهر القرآن يقبل علينا في ظرف استثنائي، فهل تكون وقفتُنا مع القرآن هذه المرة استثنائية أيضا، عسى أن يمنحنا الجليلُ من هدي الكتاب مخرجا من حالة التيه التي تغشت أمتَنا فأطبقت عليها ظلمات بعضها فوق بعض من الفقر والعوز والاستبداد والظلم والجهل والمرض والتخلف.
نأمل أن يعيننا هذا الملف على استثمار شهر رمضان على الوجه الذي يحب ربُّنا ويرضى، ويحسن بكل أسرة أن تجتمع لتضع خطة واقعية معقولة، وأن تتعاون مع من حولها من الجيران والأحبة، علنا نرُي ربَّنا من أنفسنا خيرا، فيأذن سبحانه بفك الكرب ورفع البلاء، ولعل رحمات رمضان تكون هي المنجية.
أعد الملف لموقع بيان للناس: أحمد سليمان باحث ومحرر.