نشأة الاستشراق

لا شك أن تاريخ الدراسات الاستشراقية - خاصة تلك المتعلقة بالشرق الإسلامي وحضارته - قديم، غير أن آراء العلماء والباحثين تتباين بشأن تحديد البدايات التاريخية لتلك الدراسات، وتتجه أكثر الآراء إلى تحديد فترة زمنية، وليس إلى تحديد سنة بعينها لبداية الاستشراق.

يقول السباعي: "لا يُعرف بالضبط من هو أول غربي عني بالدراسات الشرقية ولا في أي وقت كان ذلك، ولكن المؤكد أن بعض الرهبان قصدوا الأندلس[1] في إبان عظمتها ومجدها، وتثقفوا في مدارسها، وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم، وبخاصة في الفلسفة والطب والرياضيات.

ومن أوائل هؤلاء الرهبان الراهب الفرنسي "جربرت" الذي انتُخب "بابا" لكنيسة روما عام 999م، بعد تعلمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده، و"بطرس المحترم 1092 - 1156"، و"جيرار دي كريمون 1114 - 1187".

وبعد أن عاد هؤلاء الرهبان إلا بلادهم نشروا ثقافة العرب ومؤلفات أشهر علمائهم، ثم أسست المعاهد للدراسات العربية أمثال مدرسة "بادو" العربية، وأخذت الأديرة والمدارس العربية تدرس مؤلفات العرب المترجمة إلى اللاتينية - وهي لغة العلم في جميع بلاد أوربا يومئذ - واستمرت الجامعات الغربية تعتمد على كتب العرب، وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسات قرابة ستة قرون"[2].

وهناك من الباحثين من يرى أن بداية الاستشراق الأوربي كانت في القرن الثالث عشر الميلادي؛ حيث صدر قرار مجمع "فيينا" الكنسي عام 1312م بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوربية.

ومن الباحثين من يذهب إلى القول بأنه بدأ في القرن العاشر الميلادي.

بينما يذهب البعض إلى أنه بدأ في القرن الثاني عشر الميلادي؛ حيث تمت فيه ترجمة القرآن إلى اللاتينية لأول مرة عام 1143م بتوجيه الأب "فيزابل"، وفي هذا القرن أيضا أُلف أول قاموس لاتيني عربي.

ويرى البعض أنه بدأ في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي[3].

وقد جعل "نجيب العقيقي" مؤلفه عن الاستشراق والمستشرقين - والذي يقع في ثلاثة أجزاء - سجلا لحركة الاستشراق على مدى ألف عام، بدءًا من القرن العاشر الميلادي؛ حيث أخذ يرصد طلائع المستشرقين منذ ذلك التاريخ، فذكر في مقدمتهم "جربر دي أورالياك، الذي انتُخب حبرا أعظم باسم "سلفستر الثاني 999 - 1003" فكان أول بابا فرنسي، ثم ثنى بـ"قسطنطين الإفريقي" المتوفى عام 1087م، وبعده "أوجودي سانتالا"، وغيرهم حتى الأسقف "جويستنياني" المولود عام 1470م، و"ليون الإفريقي 1494 - 1552"[4].

ويذهب أحد الباحثين إلى أن بداية الاستشراق تعود إلى منتصف القرن الثامن الميلادي بعد فتح الأندلس عام 711م، فيقول: "وهناك أدلة قاطعة على أن الاستشراق قد نشأ حقا في منتصف القرن الثامن الميلادي في الأندلس... إلى آخر كلامه"[5].

وإذا كانت الآراء حول نشأة الاستشراق وبداية مسيرته لم تكن متفقة فيما بينها - على نحو ما أشرنا -؛ فإنه يمكننا أن نقرر مطمئنين أن ظهور الاستشراق لم يتأخر عن القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، حيث كان النشاط العلمي للمسلمين في الأندلس إبان فتحهم لها مصدر ولادة الاستشراق، وباعث انطلاقته.

________________________________________
[1] ابتدأ فتح المسلمين لبلاد الأندلس في شهر شعبان سنة 92هـ (711م) بقيادة طارق بن زياد، تاريخ الإسلام السياسي والديني والاجتماعي. د/ حسن إبراهيم حسن 1/313 بتصرف. دار الأندلس. بيروت. ط السابعة 1946م.

وقد ظلت الأندلس تحت حكم المسلمين حتى القرن الثالث عشر الميلادي، حين استرد ملوك قشتالة معظمها، ولم تبق إلا مملكة غرناطة العربية التي سقطت في يد الملوك الكاثوليك سنة 1492م، وكانت الفترة الإسلامية العربية العهد الذهبي للأندلس، وكانت المدن الإسلامية فيها قرطبة وإشبيلية وغرناطة مراكز مشهورة للثقافة والعلم والفن. الموسوعة العربية الميسرة 1/241 - 242 باختصار وتصرف.

[2] الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم، د/ مصطفى السباعي، ص 13 - 14. المكتب الإسلامي - بيروت، ط الثالثة 1405هـ - 1985م.

وممن يرى هذا الرأي المؤرخ الإنجليزية "ملر" في كتابه فلسفة التاريخ - كما نقل عنه الزيات في كتابه: تاريخ الأدب العربي ص 513، وكذلك "برنارد لويس" في كتابه: تاريخ اهتمام الإنجليز بالعلوم العربية - بحسب ما نقل عنه سمايلوفيتش في كتابه: فلسفة الاستشراق ص 57 - 58.

[3] راجع هذه الآراء تفصيلا في: فلسفة الاستشراق ص 54 - 59، الاستشراق والخلفية الفكرية، ص 25 وما بعدها تاريخ الأدب العربي ص 512 - 513، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي د. محمد البهي ص 429، مكتبة وهبة - القاهرة، ط العاشرة.

[4] راجع: المستشرقون 1/110 وما بعدها.

[5] فلسفة الاستشراق، أحمد سمايلوفيتش ص 67 - 68، وقد نقل بعض الأدلة على رأيه من كتاب: تاريخ الفكر الأندلسي، تأليف جونثالث يالتثيا، ترجمة حسين مؤنس، ص 485 - 486، وراجع في ذات الرأي: المستشرقون والإسلام. زكريا هاشم زكريا. ص 17. طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة 1385هـ - 1969م. نقلاً عن المؤرخ "دوزي" في كتابه عن "الإسلام الأندلسي".


التعليقات