.jpg)
كان احتكاك النصارى بالمسلمين في الأندلس، ثم في غمار الحروب الصليبية [1] التي خرج الغرب النصراني منها يجر أذيال الخيبة والهزيمة، من الأمور التي ألهبت حماس الغرب لدراسة الإسلام بروح عدائية حقود، فقدت اتزانها واختلت موازينها في نظرتها وحديثها عن الإسلام والمسلمين.
وقد نشط الصليبيون في ذلك الوقت المبكر في الهجوم على الإسلام وأهله، والانتقاص من قدره، والحط من قيمة المؤمنين به، وتولى اللاهوتيون النصارى كِبَر حملات ذلك الهجوم المسعورة، وكان لهم صولات وجولات في نسج المفتريات والأباطيل، ولم يكن لهم من مصدر لذلك كلِّه سوى الخيال، والأساطير التي لا صلة لها بالحقيقة أو الواقع من قريب ولا من بعيد.
يقول المستشرق "جوستاف إ. فون. جرونيباوم" - في معرض حديثه عن صورة الإسلام في الفكر المسيحي في العالم الوسيط -:
"وفضلاً عما أظهره الغرب من إنكار النبوة على ذلك النبي الكريم؛ كان أدب الغرب في القرون الوسطى تستهويه فكرة محمد الرب (كذا!!)، والحق أن هذه الفكرة لم تنبذ نبذا تاما قبل منتصف القرن السابع عشر، عندما مكان الكتاب المسرحيون لا يزالون يمثلون المسلمين أحيانا في صورة من يصلون ويتعبدون لربهم محمد.
وترى أغنية "رولان"[2] المسلمين وثنيين أقحاحا، يعبدون (مجموعة من الآلهة) مركبة تركيبا عجيبا من: "ما هو مت" (كذا!!)، و"أبولون"، و"جيوبين" و"ترافاجانت"، وفي مواضع أخرى يُضم "الكارون" (القرآن) إلى مجموعة الآلهة.
وهم يرون أن لهذه الآلهة - وبخاصة محمد - تماثيل مصنوعة من الذهب والفضة، وهي تُعبد في مناسك مفصلة، وتستزل معونتها قبل القتال، فإذا حلت بهم الهزيمة لعنوا الآلهة وأهانوها وجرروها في الثرى، بل لقد يحطمونها.
والهزيمة هي المصير العادي لكل عربي"[3].
وهكذا أطلق هؤلاء الكتاب العِنان لجهالاتهم وخيالاتهم المريضة، وافتروا على الله الكذب، ولم يفكروا ساعة من ليل أو نهار في إنصاف الحقيقة، والانحياز إلى الأمانة والموضوعية، بل أفصحوا بألسنتهم عن أحقادهم الكامنة، التي تسيطر عليهم وتتملكهم عند دراسة الإسلام.
وهذا واحد من أصحاب ذلك الأدب المُسِفّ في العصور الوسطى، وهو"جيبرت النوجنتي" أو "غيلبرت دونوجنت" (ت 1124م) قد اعترف بأنه لا يوجد لديه مصادر مكتوبة، وأشار فقط إلى آراء العامة، وأنه لا يوجد لديه أية وسيلة للتمييز بين الخطأ والصواب.. ثم قال في الختام - في صفاقة يُحسَد عليها -:
"لا جناح على الإنسان إذا ذكر بالسوء من يفوق خبثه كل سوء يمكن أن يتصوره المرء"[4].
وهكذا يبرر ذلك الأثيم كتاباته غير العلمية عن الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم.
بقاء الروح العدائية للإسلام مصاحبة لمسيرة الاستشراق:
ثم أخذت مسيرة الاستشراق تتواصل عبر القرون والأجيال، تهيمن عليها تلك الروح العدائية البغيضة للإسلام وأهله، غير أنها كانت تخف حدتها لدى بعض المستشرقين، ويخفت صوتها في بعض الأحيان، لكنها لا تلبث أن تطل برأسها معلنة وجودها، ولم يسلم منها إلا طائفة قليلة، سوف تأتي الإشارة إلى بعضهم لاحقا، ولم يفُت اليهود أن يلحقوا بقطار المسيرة الاستشراقية، فيتعمق بهم ويتأصل تيار العداء للإسلام، ذلك التيار الفاحش الذي لا يزال فاعلا، وممتدا أفقيا ورأسيا.
تزايد اهتمام الغربيين بالاستشراق في العصر الحاضر:
وأخذ اهتمام الغربيين بالاستشراق يتزايد عاما بعد عام؛ فينشئون الكراسي - أو الأقسام - والمعاهد الخاصة به في جامعات أروبا، ويؤسسون المكتبات، ويشجعون الأفراد لولوج ميدانه، ويغدقون عليهم المنح والأموال... إلخ.
"حتى جاء القرن الثامن عشر - وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي، والاستيلاء على ممتلكاته - فإذا بعدد من علماء الغرب ينبغون في الاستشراق، ويصدرون لذلك المجلات في جميع الممالك الغربية، ويغيرون على المخطوطات العربية في البلاد العربية والإسلامية، فيشترونها من أصحابها، أو يسرقونها من المكتبات العامة التي كانت في نهاية الفوضى، وينقلونها إلى بلادهم ومكتباتهم، وإذا بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تُنقل إلى مكتبات أوربا، وقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مائتين وخمسين ألف مجلد، وما زال هذا العدد يتزايد حتى اليوم.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عُقِد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام 1873، وتتالى عقد المؤتمرات التي تُلقى فيها الدراسات عن الشرق وأديانه وحضاراته، وما تزال تُعقد حتى هذه الأيام"[5].
ثم إن العناية بالدراسات الإسلامية - على وجه الخصوص - قد أخذت مساحة بارزة في إطار الاستشراق، وتبلور مفهوم خاص للاستشراق يتمثل في الدراسات المختلفة عن الإسلام والمسلمين خاصة.
"وفي نهاية القرن التاسع عشر أصبحت التخصصات الإسلامية تخصصا قائما بذاته داخل الحركة الاستشراقية العامة، وكان كثير من علماء الإسلامية والعربية في ذلك الوقت - مثل: "نولدكه"، و"جولد تسيهر"، و"فلهاوزن" - مشهورين في الوقت نفسه بوصفهم علماء في الساميات على وجه العموم، أو متخصصين في الدراسات العبرية أو في دراسة الكتاب المقدس"[6].
وهكذا نشأ الاستشراق وتطور، حتى غدا حركة فكرية ضخمة لا يُستهان بها، وركب تيارها منذ ابتدأت مسيرتُها إلى يوم الناس هذا خلقٌ كثير، كانت لهم أغراضٌ شتى، ودوافع مختلفة، جديرةٌ بأن نميط عنها اللثام، ونُجلي حقيقتها، وهذا ما سيأتي ذكره إن شاء الله.
___________________________________________
[1] الحرورب الصليبية: هي سلسلة حروب شنها المسيحيون الأوربيون بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، لاستعادة الأراضي المقدسة وبخاصة القدس من المسلمين، وقد كان دافعها المباشر هو الموعظة التي ألقاها البابا "أربان الثاني" في مجمع "أكلرمونت" سنة 1095م، وحث فيها العالم المسيحي على الحرب لتخليص القبر المقدس من المسلمين، ووعد المحاربين بأن تكون رحلتهم إلى الشرق بمثابة غفران كامل لذنوبهم، كما وعدهم بهدنة عامة تحمي بيوتهم خلال غيبتهم، وقد أخذ الصليبيون اسمهم من الصلبان التي وُزعت عليهم خلال الاجتماع، وكانت تسع حملات شنها الصليبيون، بدأت الأولى عام 1095م بقيادة "ولتر المفلس" و"بطرس الناسك" وآخرين غيرهما، والتاسعة كانت عام 1271: 1272م، وفي سنة 1291م سقطت عكا آخر معقل للصليبيين في الأراضي المقدسة. الموسوعة العربية الميسرة. بإشراف محمد شفيق غربال 1 /709 باختصار وتصرف. دار إحياء التراث العربي. صورة طبق الأصل من طبعة 1965م.
[2] هي أغنية تمثل فرسان "شارلمان" وهم يحطمون أصنام المسلمين. حاضر العالم الإسلامي. تأليف لوثروب استودارد 1/84، من حواشي شكيب أرسلان على الكتاب. نقلا عن "درمنجهم" في كتابه: (حياة محمد).
و"رولان" بطل الأنشودة المعروفة باسمه، وهي إحدى المقطوعات التي تتغنى بـ"شارلمان" في القرن الحادي عشر، وكان "رولان" شخصية حقيقية، عمل ضابطا في جيش "شارلمان" الذي توجه لغزو أسبانيا، عام 778م، وقتل في معركة وقعت عند ممر في جبال البرانس، قتله سكان المنطقة، ولكن الأسطورة تنقل المعركة إلى أرض أخرى، وتجعل الأعداء هم العرب، وتبالغ في الحادث وفي شجاعة البطل، والملحمة من أحب الملاحم في العصور الوسطى على نفوس سامعيها، ويتطور البطل ليتألف منه أبطال آخرون لملاحم أخرى على شاكلة الملحمة المشهورة، وقد دُرست كثيرا وتُرجمت إلى لغات عدة. الموسوعة العربية الميسرة 1 /897.
[3] حضارة الإسلام. جوستاف إ.فون جرونيباوم. ترجمة عبد العزيز توفيق. ص 70. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1977م.
[4] تراث الإسلام 1 /37: 38، واسمه هنا "غيلبرت دونوجنت" وانظر: حضارة الإسلام. جوستاف إ.فونجرونيباوم. ص 69. وقد سماه: "جيبرت النوجنتي".
[5] الاستشراق والمستشرقون. ص 14 - 15.
[6] الاستشراق والخلفية الفكرية. ص 50، نقلا عن رودي بارت، ص 17.
التعليقات