في حديث البخاري بسنده عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»
ولقد شهدت أمتنا الإسلامية على مدار المائتي عام الأخيرة منحدرا بيانيا غاية في الوضوح في تناقص العلماء القادرين على المزج بين العلم والعمل، وفي الأعلام الأثبات الموسوعيين القادرين على تحصيل في علوم الشريعة في كافة فروعها، وبعد أن كان في الفرع الواحد بل في المدرسة الفقهية العشرات من الطبقة الواحدة، أصبح الناس أنصافا أو لا يكادون، ثم وصل بنا الحال أننا نفقد العلم من أعلام المسلمين، فنخشي ألا يكون في الناس من يسد ثغرة كان يحرسها.
أما الدكتور عمارة في فقد كان فريدا في سلوكه، فريدا في أخلاقه، طلب الناس علوم الشريعة والشهادات الجامعية العليا ليطلبوا بها الدنيا، ويتصدروا بها المجالس، واختار أن يعتكف في محراب العلم، يتنسك فيه السنوات الطوال، حتى خرج للناس نسيجا وحده، أثلج الله به صدور المؤمنين، ودحر ورد شبهات المغرضين من الأفاكين المفترين على الله وشرعه زورا وبهتانا بغير علم.
ثم تقضي إرادة الله أن يمضي الفارس النبيل والبقية الباقية من علماء المسلمين الثقات قد تسلط عليهم فراعين العصر، يفتنونهم في دينهم ويراودنهم على ثوابت عقيدة الإسلام وشريعته، إما أن يلووا عنقها لتوافق نزواتهم، أو أن يسيموهم سوء العذاب، فمعظمهم في بلاد الإسلام بين شهيد وسجين ومطارد.
ولقد رأت الأمة من مشرقها إلى مغربها، كيف هو سوء أمرها إذا خلت بلاد الإسلام من عالم عامل، وبات باديا لكل ذي عينين أن رؤوسا ضلالا فاسدين قد استلموا راية الفتيا يفتي بعضهم عن ضلال وهوى وغرض، ويفتى الآخرون عن عجز وجهل، وما عاد بين الأمة وبين الضلال الكبير إلا يوما أو بعض يوم.
والدور الآن على عموم أمة الإسلام، إما أن تقف مع علمائها في خندق واحد تدفع عنهم وتستقوي بهم، وإما يمضي علماء الأمة بين مبدل جرفه تيار التغريب والاحتلال، وبين ثابت قد مضى بعد أن قضى ما عليه، وتتجرع الأمة مذلة التيه إلى حين.
الدكتور عمارة كان حارسا أمينا على بوابة التجديد يحفظ ثوابت الإسلام، دون تعقيد يخل بسماحته، أو جمود يفقد الإسلام مرونته التي منحها له الشارع كونه الدين الخاتم المطالب بتلبية حاجات البشرية عبر آلاف السنين.
اليوم يرحل حارس الثغر الكبير، ظل يحمل الراية إلى النفس الأخير، على الرغم من مشاق الطريق وعقباته، متحديا نوازع الضالين ومغرياتهم، فمضى حميدا مجيدا، وكان رحيله إعلانا مدويا يصرخ في جنبات الكون، ألا «لا نامت أعين البطالين، من باعوا دينهم بعرض من الدنيا زائل، أو باعوا دينهم بدنيا غيرهم» فيجدد سيرة القائد ابن حنبل ومسيرته، ويجسد مقولته «بيننا وبينكم الجنائز» فيمضى وقد شهد له كل من كان في قلبه مثقال ذرة من حب لدين الله وشرعه، ولعل ملكا في السماء كان ينادي أن «قد وجبت»، بينما تنفس من طالما ألقمهم حجرا الصعداءُ، فظلوا ينفثون في يوم موته زفرات الحقد والحسد، غير آبهين بجلال الموت ورهبته، متناسين حديثهم عن الرحمة ومحاسن الموتى الذي يطل علينا كلما هلك ظالم من ظالميهم.
رحمة الله على العالم الشهيد، اللهم اخلف أمتنا في مصيبتها خيرا، ولا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره واغفر اللهم لنا وله ... آمين