لا شك أن رؤية البيت الحرام، ولقاء المسلمين الجامع، وتعظيم البيت العتيق وعمارته، وتقديم النسك، مقصود عظيم من مقاصد هذا الدين، ولكن الإسلام باعتباره الدين الخاتم قد حوى في طياته بدائل صالحة للتطبيق لكل عمل، نلحظ هذا في الأعمال الواجبة، بل وفي الأعمال المحرمة، فحين يحرم الله الربا يفتح له من البدائل ما يغني البشر عنه فالقرض الحسن، والصدقة، وصلة الأرحام، وحق الفرد من المال العام، والزكاة ... وغيرها كلها بدائل لا تدع المجتمع المسلم بحاجة إلى الربا المحرم، حتى الجهاد ذروة سنام الإسلام، فكما عند البخاري « أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: «إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ» (البخاري: 2839) والمسلمون حين يحال بينهم وبين البيت الحرام لعلة أو أخرى، فلابد أن يفكروا في بديل يحفظ لهم مغانم تلك الرحلة العظيمة، ينفق المسلمون ما يزيد عن الـ 50 مليار دولار على شعيرة الحج سنويا، وربما يكون هذا تقديرا متحفظا نظرا لما يرتبط بهذه الرحلة من نفقات لازمة قبل الرحلة وبعدها، فلو تم استغلال هذا المبلغ في معالي أمور المسلمين وقضاياهم الكبرى لربما عاد هذا على الأمة بالخير العميم.
ملايين البطون الجائعة، مئات الآلاف من المسلمين يتعرضون للفتنة في دينهم، عشرات الآلاف من فقراء المسلمين في آسيا وإفريقيا يحتاجون للماء النظيف والتعليم الجيد، الكثيرون في ظل الجائحة العالمية COVID-19 تأثروا بالمرض وبفقد العمل، وقلة الموارد هؤلاء جميعا لربما يكون الطواف بحاجاتهم أحب إلى الله وأقرب من الطواف حول البيت العتيق. والسعي على فك كرباتهم أحسن من السعي بين الصفا والمروة وأقرب رحما، وما الغرابة في هذا ألم يقل رسولنا الأعظم صلي الله عليه وسلم كما عند الطبراني في الكبير « نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مَا أَطْيَبَكِ، وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكَ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ» (المعجم الكبير: 10966)
الحج شعيرة إسلامية، وفريضة ربانية تهفو إليها قلوب المسلمين في المشارق والمغارب، تنفيذا لموعود الله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27] واستجابة لدعاء الخليل إبراهيم عليه السلام ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37].
وإذا كان البعض ينظر إلى الحج على أن تكليف، والتكليف يستتبع المشقة، إلا أن حقيقة الحج أنه هدية ومنحة ومنة ربانية على هذه الأمة، ولو أحسن المسلمون استغلاله لأدركوا قيمة النعمة الإلهية، فهو موسم لتجديد التوحيد ونبذ كل معاني وموروثات الشرك، وإفراد الله تعالى وحده بالعبادة والتعظيم، وهو أيضا موسم الوحدة الكبرى، ففي كل صلاة يجتمع أهل الحي الصغير ليكونوا اللبنة الأولى من لبنات الوحدة الإسلامية، فإذا كان يوم الجمعة انضمت إلى هذه اللبنة لبنات، وفي شعيرة الصيام يتوحد أهل القطر جميعا فيمسكون ويفطرون في زمن واحد، ثم يأتي دور الحج الأكبر، ليصنع صرح الوحدة العظمى التي تتأبى على كل تفرقة، والتي تدفن أعداءها تحت هدير متواصل من التكبير والتهليل واللحمة والتراحم.
لكن حين يتحول الحج، كما سائر الشعائر، إلى طقوس آلية، ومراسم بروتوكولية، فإننا نهدر القيمة الفعلية، ولا نقدر تلك المنة قدرها.
أعد الملف ليبان للناس: أحمد سليمان (باحث ومحرر)